أمَّا بعد:
فإنَّ استشراف المستقبل رهينٌ بمعرفة الماضي والحاضر، والحديث عن مستقبلِ موضوعٍ ما هو مُتضمِّن بشكلٍ أو بآخر حديثًا عن ماضي ذلك الموضوع وحاضره.
والدراسة المستقبليَّة لموضوعٍ ما تظلُّ دائمًا وأبدًا نسبيَّةً ومتأرجحة بين إمكانيَّات الوقوع، وإمكانيَّات اللَّاوقوع، مستحضرة في أُفُقها الاستشرافيِّ السيناريوهات المُمكنةَ في حدود الإمكانات الإنسانيَّة.
وعلى هذا، فمستقبل اللُّغات رهينٌ بما عاشته تلك اللُّغات في زمنها الماضي، وما تعيشه في زمنها الحاضر، وتبقى الدِّراسة المستقبليَّة لمصيرِ لغةٍ ما احتماليَّةً ونسبيَّة، مهما حاول الباحث جاهدًا تحرِّيَ الضوابط العلميَّة.
وسأحاول في هذه المقالة مقاربة بعض الاحتمالات الواردة فيما يخص مستقبل اللُّغة العربيَّة عامَّة، ومستقبلها في المغرب على الخُصوص.
وليس همِّي في هذا البحث استقصاء كل الأسباب والمسائل المتعلقة بمستقبل اللُّغة العربيَّة؛ وإنَّما الاقتصار على جانبٍ واحد، مرتبطٍ باللُّغة ارتباطًا تلازميًّا، لا ينفكُّ عنها ولا تنفكُّ عنه، والإشارة بإيجاز وفي لمحاتٍ خاطفةٍ للجوانب الأخرى المتعلِّقة بمستقبل اللُّغة العربيَّة، إذًا فهذه دراسة جزئيَّة لموضوعٍ كبيرٍ، لا تهدف إلى الإحاطة الكُلِّية الشاملة.
وقد جعلت المقالة وفق العناصر الآتية:
1- توطئة: كثيرًا ما نقرأ ونسمع عند المسلمين أنَّ اللُّغة العربيَّة ستبقى خالدة ومحفوظة؛ لارتباطها بالقرآن الكريم، ويستدلون على هذا بالآية الكريمة: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]، وحديثهم هذا هو حديث عن مستقبل اللُّغة العربيَّة، وهم - وباعتمادهم على الآية السالفة - يقررون حقيقةً مفادُها: أن اللُّغة العربيَّة ستبقى ما بقي الإنسان، وهذا البقاء ضامنه الله تعالى.
وسأحاول أن أُناقش هنا هذا الرأي بإيجاز اعتمادًا على فرضيتين:
تفترض الأولى: أن هذا الرأي صحيح.
وتفترض الثانية: أن هذا الرأي غير صحيح.
حتى وإن سلَّمنا مع القائلين بأنَّ الله قد نصَّ في القرآن الكريم على أن اللُّغة العربيَّة محفوظة، وستبقى ما بقي إنس على وجه هذه الأرض، فلا نعرف حقيقةً كيف هو هذا البقاء؟ وإن عُدنا للقرآن الكريم، لا نجد آيةً صريحة تخبرنا كيف ستكون اللُّغة العربيَّة في المستقبل؟
وعلى هذا، وانطلاقًا من فرضيتنا الأولى، يُمكن القول: إنَّ اللُّغة العربيَّة ستكون حاضرة في المستقبل؛ لكنَّنا لا نعلم بأيِّ شكلٍ من الأشكال ستكون، ولو تركنا المجال للعقل ليرصد لنا الإمكانات المُمكنة منطقيًّا، مع استحضارنا للوضعيَّة التي عاشتها اللُّغة العربيَّة وتعيشها الآن، لأعطانا عدَّة احتمالات، من بينها: أن اللُّغة العربيَّة يمكن أن تكون حاضرةً بقوَّة في المستقبل، أو أن تكون حاضرةً بالشكل الذي هي عليه الآن، أو أن تبقى فقط لغةً دينيَّةً يمارسها المسلم في العبادات والممارسات الدينيَّة لا غير؛ أي: ستُصبح لغةً طقوسيةً، وليست لغةً حياتيَّةً، هذه الاحتمالات كلُّها قائمة بذاتها، حتى وإن أقررنا ببقاء اللُّغة العربيَّة.
الآية التي استدلَّ بها القائلون بأن اللُّغة العربيَّة ستبقى إلى الأبد، لو أمعنَّا النظر فيها ورجعنا للمفسِّرين، لوجدنا أنَّها لا تنصُّ بالضرورة على بقاء اللُّغة العربيَّة؛ فخلاصة ما جاء في التفاسير: أن هذه الآية تدلُّ على إقرارٍ من الله تعالى على أنَّه هو الذي أنزل الذكر - ويُقصد بالذِّكر هنا عند جلِّ المُفسِّرين القرآنُ - واللهُ هو الحافظ له من التغيير والتبديل، وقيل أيضًا بأنَّ ﴿ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]؛ أي: في حال إنزاله وبعد إنزاله؛ ففي حال إنزاله حافظون له من استراق كلِّ شيطانٍ رجيم، وبعد إنزاله أودعه الله في قلب رسوله واستودعه فيه ثمَّ في قلوب أمَّته، وحفظ الله ألفاظه من التغيير فيها، والزيادة والنقص، وحفظ معانيه من التبديل، وأرجع بعض المفسرين الضمير في قوله تعالى: ﴿ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9] إلى النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم من أن يُكاد أو يُقتل، لكنَّ أغلب المُفسِّرين يُرجِّحون المعنى الأول[1].
وبناءً على ما سطرناه من خلال الفرضيتين، يمكن القول: إنَّ مستقبل اللُّغة العربيَّة يبقى هو كذلك رهين مُعطيات وأسباب أخرى، إن توافرت فسيكون للعربيَّة مستقبل قوي، وإن انعدمت فسيكون مستقبل العربية مرتبطًا بالدِّين فقط، ولن تُستعمل في الحياة اليومية، وفيما سيأتي من صفحات سأحاول إبراز أهمِّ عنصرٍ في تحديد معالم مستقبلِ أيِّ لغةٍ مهما كانت.
2- مستقبل اللُّغة العربيَّة رهينٌ بمستقبل مُتكلِّميها:
إنَّ اللُّغة لا تعدو أن تكون وعاءً ووسيلةً من وسائل الناس في التخاطب والتواصل، وهي - مثلها مثل باقي الكائنات الحيَّة - تعيش وتزدهر إذا توافرت شروط ازدهارها، وتموت وتضمحل إذا توافرت شروط فنائها، واللُّغة - أيُّ لغةٍ - لا توجد في هذا العالم دون مُتكلِّمين بها، فاللُّغة كما يعبِّر عن ذلك الباحثون: هي ظاهرة إنسانيَّة اجتماعيَّة، لا يمكن دراستها أو استشراف مستقبلها دون استحضار البُعدين الأساسين المُهيكلين لها، وهما: البُعد الإنساني، والبُعد المجتمعيُّ الحياتي، وهذان البُعدان لا ينفصل بعضهما عن بعض، واللُّغة ترتبط بهما ترابطًا تلازميًّا، لا تنفكُّ عنهما ولا ينفكَّان عنها، إذًا فالإنسان أو مُتكلِّم اللُّغة هو أهم عنصر في تحديد معالم مستقبل لغةٍ ما، ولنا في التاريخ أسوةٌ حسنةٌ، فعندما كان أهل اللُّغة العربيَّة أسيادًا في العلوم، والفنون، والآداب، والعمران، والزراعة، والصناعة، والتجارة - بمعنى: أنَّ اللُّغة ارتبطت بقوَّة المسلمين بكلِّ ما تحمله القوَّة من عناصرَ عسكرية، واجتماعية، ودينية، وعلمية، وثقافية[2] - كانت لغتهم سيِّدة على اللُّغات الأخرى، وما كان على الآخر إلا أن يتعلَّم اللُّغة العربيَّة؛ لأنَّها كانت السبيل الوحيد للارتقاء والسُّمو، واكتساب العلم والمعرفة، ولنستمع إلى ما قاله القس "Alvaro" مُتحدِّثًا عن فترةٍ سادت فيها اللُّغة العربيَّة في أوربا، يقول: "إنَّ كلَّ الموهوبين من شُبَّان النصارى لا يعرفون اليوم إلا لغة العرب وآدابها، ويُؤمنون بها، ويقبلون عليها في نهم، وهم يُنفقون أموالًا طائلةً في جمع كتبها، ويُصرِّحون في كلِّ مكان بأنَّ هذه الآداب حقيقةٌ بالإعجاب، فإذا حدَّثتهم عن كتب النصرانية، أجابوك في ازدراء بأنَّها غير جديرة بأن يصرفوا إليها انتباههم، يا للألم! لقد أُنسيَ النصارى حتى لغتهم، فلا تكاد تجد واحدًا منهم بين الألف يستطيع أن يكتب إلى صاحبٍ له كِتابًا سليمًا من الخطأ، فأمَّا عن الكتابة في اللُّغة العربيَّة، فإنَّك تجد فيهم عددًا عظيمًا يُجيدونها في أسلوبٍ مُنمَّق، بل هم يَنظِمون من الشِّعر العربي ما يفوق شِعر العرب أنفسهم فنًّا وجمالًا"[3]، هذا الكلام نفسه ينطبق اليوم على العرب، فقد تركوا لغتهم، واهتموا بلغة مُستعمريهم، وهذه الحالةُ التي يعيشها العرب اليوم وتعيشها لغتهم يمكن إجمالها في ما قاله ابن حزم قبل عشرة قرون تقريبًا، فقد قال: "إن اللُّغة يسقط أكثرها ويبطل بسقوط دولة أهلها، ودخول غيرهم عليهم في مساكنهم، أو بنقلهم عن ديارهم واختلاطهم بغيرهم، فإنَّما يُقيد لغةَ الأمَّة وعلومها وأخبارها قوَّةُ دولتها ونشاط أهلها وفراغهم، وأمَّا مَن تلفت دولتهم، وغلب عليهم عدوهم، واشتغلوا بالخوف، والحاجة، والذُّل، وخدمة أعدائهم، فمضمون منهم موت الخواطر، وربَّما كان ذلك سببًا لذهاب لغتهم، ونسيان أنسابهم وأخبارهم، وبيود علومهم، هذا موجودٌ بالمشاهدة، ومعلومٌ بالعقل ضرورة"[4]، وقال ابن خلدون في الصَّدَد نفسه: "إن غلبة اللغة بغلبة أهلها، وإن منزلتها بين اللُّغات صورة لمنزلة دولتها بين الأمم"[5].
وبناءً على هذا يمكن القول: إنَّ أهل اللغة هم المسؤولون بالدرجة الأولى عن حالة ووضعيَّة لغتهم، فإن كانوا مُستقلِّين أقوياء، كانت لغتهم مُستقلَّة قويَّة، وإن كانوا تابعين مُنهزمين كانت لغتهم لغةً ضعيفةً، فقيمةُ اللُّغة من قيمةِ أهلها، وكرامتها من كرامتهم، وقوَّتُها من قوتهم، ولا يمكن أبدًا فصل اللُّغة عن مُنتجيها، فما يعتري أهلَ اللُّغة يعتري اللُّغةَ بالضرورة.
ومن أهم أسباب قوَّة أي لغة وانتشارها الواسع:
وعلى هذا؛ فمستقبل اللُّغة العربيَّة رهينٌ بمستقبل مُتكلِّميها، وما دام أهل اللُّغة العربيَّة في ضعفٍ وهوانٍ، وهزيمةٍ نفسيَّة، وتخلُّفٍ اقتصادي، وتبعيَّةٍ ثقافية وعلمية، ولغويَّة وإعلامية، وفي صراعٍ وتنازعٍ لا ينتهيان، فلا تنتظر من لغتهم أن تكون في وضعٍ أحسن ممَّا هم فيه[6].
ومن خلال ما قيل نستنتج أنَّ قضية مستقبل اللُّغة العربيَّة ليست بالقضيَّة الثانويَّة، بل هي قضية وجود؛ فإمَّا نكون أو لا نكون.
وهذان الاحتمالان كلاهما وارد، لكن بالنظر إلى الوضعية التي يعيشها الناطق باللُّغة العربيَّة - كما قلنا - المُتَّسِمةِ بالتشتُّت والتخلُّف، والتبعيَّة والاتكاليَّة، والتغنِّي بالماضي التليد، وغياب النظرة البعيدة، فالاحتمالُ الثاني يكون لا شكَّ هو الاحتمال الوارد بقوَّة.
لكن مع ذلك يجب على الإنسان أن يكون مؤمنًا بأنه لا يوجد حلم لا يمكن تحقيقه[7]، وكما هو معلوم فحلمُ كل الناطقين بلغة الضَّاد، هو أن تنتشر في الآفاق؛ لهذا فكلُّ ما علينا فعله هو بذل الجهد والمال لتحقيق هذا الحلم، وبناء تصوُّر مستقبليٍّ للنُّهوض بهذه اللُّغة لتصل إلى المكانة التي نحلم أن تكون فيها.
لهذا فأول ما يمكن فعله هو العمل بمقتضى الآية التي تقول: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11]، ومن المسلَّم به أنَّ مَن غيَّر نفسه غيَّر تبعًا لذلك التاريخ والمستقبل[8]، فإن كانت الأمَّة العربية الإسلامية تتخبَّط اليوم في ثنائية الذُّل والتبعيَّة في شتَّى مناحيها، فلا شكَّ أن اللغة التي يمتلكونها لن تكون مستقلَّة.
لهذا فثاني خطوة يجب على الأمة فعلها: هي الانفكاك عن الثنائية التي ذكرت، وإحلال محلها ثنائية العزَّة والاستقلال، بمعنى أن نعتزَّ بلغتنا ونفتخرَ بها، ونستعملها في كلِّ مستوياتنا التعليمية، وتعاملاتنا الإدارية، وخطاباتنا السياسيَّة، سواء داخل البلاد الناطقة بالعربية أو خارجها، ونشراتنا الإعلامية، وكذلك يجب أن يكون لنا حرية واستقلال سياسيٌّ، في تعاملنا مع أمورنا الخاصَّة، وألا نتساهل مع تدخلات الآخر وإملاءاته، ومن حقِّنا فرض عقوباتٍ قاسيةٍ على مَن تُسوِّل له نفسه إهانة كرامتنا اللغوية، فكرامةُ اللغة وقيمتها من كرامة وقيمة أهلها، فإن حُطَّ من قدر لغتنا وتُنقِّص منها، فهذا تنقيصٌ من قدرنا وقيمتنا، بالإضافةِ إلى هذا يجب أن يكون لنا استقلال ثقافي، فلا يُعقَل أن نتبع ثقافيًّا حضارةً ما؛ لأنَّ الثقافة لا تُصدَّر ولا تُستورَد؛ بل هي ناتجة من رحم الأمة، ومن ماضيها، ومنتجات أهلها؛ لهذا فلا يمكن فصل الثقافة عن اللغة، فكلاهما ينصهران في بوتقة واحدة، وينبعثان من مصدرٍ واحدٍ هو من صميم الأمة وروحها.
وثالث ما على الأمَّة فعله تبعًا لهذا: أن تعمل على البعث الفكريِّ والبعث الروحي، اللذَيْن هما عماد كل حضارةٍ في سيرها الحثيث[9]، وهذان الأُسَّان يقتضيان أن تُحارب الأمَّة الجهلَ أينما ذهب وارتحل؛ لأنَّ الجهل هو السبب في الذُّل والتبعيَّة التي يعيشها عالمنا الإسلاميُّ، وبموازاة محاربة الجهل يجب الحث على طلب العلم والمعرفة اللذَيْن يُمكِّنان الأمَّةَ من الرِّيادة والسِّيادة.
فعلى أهل العربية أن يقوموا بالقفزة ذاتها التي حدثت منذ ثلاثة عشر قرنًا؛ لكي يترجموا من جديد الفكر العلميَّ، وحتى الفكر السياسي[10]؛ ليواكبوا العصر السائرين في ركبه، ويحتلوا مراكز تجعل الآخر يحترمهم ويحترم تبعًا لذلك لغتهم، وقد قال في هذا الصَّدَد مالك بن نبي: "إنَّه لمن الواضح أن الشعب الذي بدأ يعود إلى وَقاره، ويستمسك بأسباب كرامته، ويميل إلى التناسب والجمال في مظهره العام - قد أعاد سيره في موكب التاريخ"[11].
3- مستقبل اللُّغة العربيَّة في المغرب:
نجد كثيرًا من المغاربة اليوم يُولُونَ أهميَّةً بالغة للُّغة الأجنبيَّة، على حساب اللُّغة العربيَّة، وهذا الاهتمام المُتزايد باللغة الأجنبية راجعٌ - بالأساس - لارتباط اللغة بالاقتصاد، وكما هو معلوم فالاقتصاد المغربي في شموليَّته يعتمد على اللغة الفرنسيَّة؛ لهذا فأغلب الوظائف في المغرب تتطلَّب معرفة وإلمامًا باللغة الفرنسية، إذًا فهذا النزوع نحو اللغة الفرنسيَّة هو نتيجة طبيعيَّة للسياسة الاقتصاديَّة بالمغرب، وقد قال في هذا الصَّدَد عبدالقادر الفاسي الفهري: "ذلك أنَّنا في المغرب "لا نأكل" بالعربيَّة، ولا نملأ بها شيكنا البنكي، ولا نتسلَّم بها الوصل البريدي، ولا نعبئ بها بطاقة الأمن، والتجارة، والتعليم العلمي والتقني، والمصالحُ الاقتصادية والإدارية لا تتكلم عادةً بالعربية"[12]، ومعنى هذا أنَّ لغة الاقتصاد والمال في المغرب هي اللغة الفرنسيَّة.
وكما سطرنا من قبل فمستقبل اللغة رهينٌ بمستقبل مُتكلميها؛ وعليه فمستقبل اللُّغة العربيَّة بالمغرب رهينٌ بمستقبل الإنسان المغربي.
والإنسان المغربي اليوم يحس بالدونيَّة إن تحدَّث باللُّغة العربيَّة، وكأنها صارت عنوانًا للتخلُّف والتبعيَّة؛ لهذا نجد الكثير من المغاربة يحطُّون من قدر اللُّغة العربيَّة ومُتحدِّثيها، معبِّرين بهذا عن تمكُّن عقدة النقص من كيانهم، فكل ما هو هوياتي من صميم الأمة الإسلامية يعتبرونه نقصًا، وكل ما هو خارج عن ذواتنا وقادم من الحضارة الغربيَّة يعتبرونه هدفًا وحلمًا يسعَون إلى بلوغه، إذًا فاللُّغة العربيَّة في المغرب تعيش وضعيَّة لا تُحسَد عليها؛ فعلى المستوى السياسيِّ يبقى مستقبل المغرب مرهونًا سياسيًّا من لدُن الدول الكبرى - وخصوصًا الولايات المتحدة الأمريكية أكبر إمبريالية في تاريخ الإنسانية - ومرهونًا اقتصاديًّا من قِبَل البنك العالمي وصندوق النقد الدولي، الذي ليس سوى فرع من الولايات المتحدة الأمريكية، ومرهونًا ثقافيًّا بهذا الهجوم الثَّقافي الذي تقوم به جميع الوسائل السمعيَّة البصريَّة ووسائل الإعلام[13].
وعلى المستوى الشعبي نرى تخاذُلًا يتَّسِم بالنفعيَّة، بمعنى أنَّ الأغلبية من المغاربة يُفضِّلون الفرنسية على العربية؛ لما تتيح لهم هذه اللغة من فرص العمل، وقد قال الودغيري في هذا الصَّدَد: "السِّمة الغالبة على تعامل أهل العربية مع لغتهم هي سمة التفريط واللَّامبالاة، والتنكُّر والتخلِّي، والتقصير في خدمتها واستعمالها، وتهميشها في كثيرٍ من المجالات الحيويَّة"[14].
وأمَّا على المستوى القانوني، فنجد تسامحاً مع دعوات إقصاء العربية.. رغم أن الدستور نصَّ صراحةً على أنَّ اللُّغة العربيَّة هي اللغة الرسمية الأولى، فإنَّه لم يستطع إحداث التغيير المطلوب، مما يعني وجود قُوى "متنفذة" ترفض الاستعمال الإجرائي للغة الدستور[15].
وأمَّا على مستوى الحالة اللُّغوية بالمغرب، فالمغرب يعيش وضعيَّة تعدُّديَّة، تُهيمن فيها اللغة الفرنسية على الميادين الحيوية؛ كتدريس العلوم والهندسة والطب، وحقل المعلومات والتكنولوجيا، والتعاملات الإدارية الاقتصادية، بالإضافة إلى حضور اللُّغة الفرنسيَّة بقوَّة في المجال السياسي، وخاصَّةً حقل التمثيلية الدُّبلوماسية الخارجية، وتحتل العامِّية واللغة الأمازيغية بتشكلاتهما المختلفة حضورًا قويًّا في الحياة اليومية بين المغاربة أنفسهم، فهما يُشكِّلان الوسيلة التواصلية الأكثر استخدامًا في المغرب، لا على المستوى الواقعي فقط، بل حتى على المستوى الافتراضي، أما اللُّغة العربيَّة باعتبارها اللغة الرسميَّة، فنجدها في المؤسسات التعليمية والإدارية، لكن حضورها على المستوى المكتوب أكثر منه على المستوى الشفوي، وهناك لغات أخرى كالإنجليزية التي لا تلقى اهتمامًا كبيرًا من لدُن المغاربة لسببٍ سياسيٍّ بالأساس، واللغة الإسبانية هي كذلك توجد بشكل قليل في المناطق الشمالية بالمغرب، واللغة الحسانية في المناطق الجنوبية، إذًا فمستقبل اللُّغة العربيَّة بالمغرب هو مستقبل ضبابيٌّ غير واضح المعالم؛ ولكي ننهض باللُّغة العربيَّة بالمغرب علينا:
أولًا: أن ننهض بمُنتِجِها وهو الإنسان المغربي، ونقطة البداية لدخول الإنسان المغربي للمستقبل هي: التعليم، بمعنى رفع الكفاءة اللغوية والمعرفية عند الطلاب؛ ليكونوا مُبدعين لا مُتلقِّين، والحقيقة إن نظم التعليم في أغلب الدول العربية لا تصلح لإعداد عقولٍ مبدعةٍ، فالنظام التعليميُّ العربي على العموم - والمغربيُّ على الخصوص - يحتاج إلى إعادة نظر[16].
وثانيًا: التحرُّر من التبعيَّة الرمزيَّة التي يتَّسِم بها المواطن المغربي، والتبعيَّة السياسية والاقتصادية والثقافية التي تُعاني منها الدولة ككُل، فلا يُمكن أن ننهض باللُّغة العربيَّة في ظلِّ عدم وجود إرادة سياسية حقيقية، وكذلك تخاذُل النخب الواعية والمثقَّفة بالمغرب.
وثالثًا: الحثُّ على غرس حب اللُّغة العربيَّة في الجيل القادم والجيل الحالي، وخاصَّةً الأطفال والشباب؛ لأنَّهم عماد مستقبل أي أمَّة.
ورابعًا: يجب على الذين يُتقنون اللُّغة العربيَّة استعمالُها عند كل الفرص المُتاحة، وعدم التساهل مع مَن ينتقِص منها، ويحول بينهم وبين التمتُّع بحقِّهم الشرعي والقانوني، من حيث المستوى الكتابي والشفوي، خصوصًا في الوثائق الإدارية.
وخامسًا: عقد الأطراف المسؤولة بنودًا قانونيَّة تجرم كل مَن ينتقِص من اللُّغة العربيَّة؛ لأنها من ثوابت الدولة المغربية.
وسادسًا: توافر إرادة شعبية وسياسية للنهوض باللُّغة العربيَّة بالمغرب.
بمعنى آخر: لكي يكون للغة العربية بالمغرب في المستقبل وضع قويٌّ وريادي؛ يجب على مكونات الشعب المغربي القيامُ بتغيير جذري، وهذا التغيير الجذري من الممكن الوقوع في أيِّ لحظة.
ونجاح هذا العمل النهضوي رهينٌ بمشاركة وانخراط كل الفعاليات، سواء المدنية أو السياسية، وحتى العسكرية إن لزم الأمر.
خاتمة:
لم أتحدَّث في هذه المقالة عن الخصائص الداخلية للغة العربية؛ لأنه في نظري حتَّى وإن كانت اللغة لا تُعاني من أي مشكلة داخلية، فلن يشفع لها ذلك بالبقاء؛ لأنها محكومة بترابطها مع الناطق بها؛ فإذا شاء أن يهملها أهملها، وإن أراد استعمالها فسيستعملها، ولعلَّ خير مثالٍ يُضرب هنا هو ما آلت إليه اللغة العبرية، فبمجرد أن عقد أهلها العزم على بعثها واستعمالها، حتى لانت لهم الأمور الأخرى.
واليوم، في الأراضي الفلسطينية المُحتلَّة يُدرَّس بهذه اللغة العائدة من سباتٍ طويلٍ كلُّ العلوم، ويُترجم أهلها ضعف ما يترجمه العرب مجتمعين، إذًا يمكن أن نستخرج ممَّا قُلناه قاعدة تُحدِّد معالم المستقبل لأيِّ لغةٍ مهما كانت:
ناطق باللغة + لغة + علم + إرادة سياسية وشعبية + استقلالية + مال = مستقبل واعد للغة، ولا يهم اللغة، هل هي عربية، أو فرنسية، أو صينية؟ وهل هي معربة أو غير معربة؟
فالمتحكِّم الأوَّل والأخير في مستقبل اللغة هو أهلها، واللغة - أيُّ لغةٍ - لا تعدو أن تكون سوى انعكاسٍ لوضعيَّة أهله؛ فإن كان أهلها مسيطرين على العالم، سيطرَت لغتهم على العالم، وإن كان أهلها مُنعزلين عن العالم، كانت لغتهم مُنعزلة؛ لهذا يجب على دُعاة التجديد والتيسير أن يُتعبوا أنفسهم في شيءٍ آخر أهم، فليس العيب في الإعراب أو نون النسوة أو اللغة، بل العيب فينا.
وأختم بأبياتٍ قالها الشافعي يردُّ على مَن ينسب ضعفه لشيء آخر، يقول الشافعي رحمه الله:
نَعِيبُ زَمَانَنَا وَالعَيْبُ فِينَا
وما لزمانِنا عيبٌ سِوَانَا
ونهجو ذا الزمانَ بغيرِ ذنبٍ
ولو نطق الزمانُ لنا هَجَانَا
وليسَ الذئبُ يأكلُ لحمَ ذئبٍ
ويأكلُ بعضُنا بعضًا عيانَا[17]
والحمد لله رب العالمين.
♦ ♦ ♦ ♦
لائحة المصادر والمراجع الواردة في المقالة:
[1] انظر: تفسير الطبري من كتابه جامع البيان عن تأويل آي القرآن، هذَّبه وحقَّقه، وضبط نصَّه وعلَّق عليه، الدكتور بشار عواد معروف، والدكتور عصام فارس الحرستاني، مج4، مؤسسة الرسالة، ط1، 1994، ص 469، 470، و تفسير القرآن الكريم؛ لابن كثير، ت:سامي بن محمد السلامة، ج4، دار طيبة للنشر والتوزيع، ط 2، 1999، ص 527، وتيسير الكريم الرحمن، في تفسير كلام المنان؛ تأليف: عبدالرحمن بن ناصر السعدي، ت: عبدالرحمن بن معلى اللويحق، دار السلام للنشر والتوزيع، ط2(2002) 498، والجامع لأحكام القرآن، والمبين لما تضمنه من السنة وآي القرآن؛ تأليف القرطبي، ت: عبدالله بن عبدالمحسن التركي، ج12، مؤسسة الرسالة، ط1، 2006، ص180،181،182.
[2] وليد أحمد العناتي، اللغة والعولمة، لغة عالمية أم لغات متعددة؟ وقائع مؤتمر مستقبل اللغات في عصر العولمة، جامعة الملك خالد بن عبدالعزيز، أبها السعودية 2006، ص 16.
[3] ليفي بروفينسال، الحضارة العربية في إسبانيا، ترجمة الدكتور الطاهر أحمد مكي، ط3، دار المعارف، 1994، ص 101.
[4] ابن حزم الأندلسي، الإحكام في أصول الأحكام، تحقيق أحمد محمد شاكر، قدم له إحسان عباس، ج1، منشورات دار الآفاق الجديدة، ص 32.
[5] ابن خلدون، المقدمة، طبعة دار الفكر، بيروت 1981م، ص 764.
[6] عبدالعلي الودغيري، مستقبل العربية في أيدي أصحابها، مجلة الإسلام اليوم، العدد 33، ص 135، الإيسيسكو الرباط، 2016.
[7] قولةٌ لتراو توكودا، وهي العنوان الفرعي لكتابه الانطلاق من الصفر، ترجمة الدكتور ماهر الشربيني، مراجعة الدكتور عبدالغفور إبراهيم، دار زهران للنشر والتوزيع، 2010.
[8] فكرة وجدتها عند مالك بن نبي في كتابه شروط النهضة، في ص 32، وقد تصرفت فيها.
[9] مالك بن نبي، شروط النهضة، ترجمة عبدالصبور شاهين، بإشراف ندوة مالك بن نبي، دار الفكر للطباعة والتوزيع والنشر بدمشق، ص 33 بتصرف.
[10] مالك بن نبي، من أجل التغيير، ترجمة عبدالصبور شاهين، دار الفكر للطباعة والتوزيع والنشر بدمشق، دار الفكر المعاصر ببيروت، 1995، ص 62 بتصرف.
[11] مالك بن نبي، شروط النهضة، ترجمة عبدالصبور شاهين، بإشراف ندوة مالك بن نبي، دار الفكر للطباعة والتوزيع والنشر بدمشق، ص 34.
[12] عبدالقادر الفاسي الفهري، اللغة والبيئة، منشورات الزمن، مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء، توزيع سبريس، 2003، ص 72.
[13] المهدي المنجرة، عولمة العولمة من أجل التنوع الحضاري، منشورات الزمن، مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء، ط2، 2011، ص 67، بتصرف.
[14] عبدالعلي الودغيري، اللغة العربية في مراحل الضعف والتبعية، ص 140، دار العربية للعلوم ناشرون بيروت 2013.
[15] فؤاد بوعلي، النقاش اللغوي والتعديل الدستوري في المغرب، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، معهد الدوحة، سلسلة دراسات وأوراق بحثية، 2012، ص 5، 6، بتصرف.
[16] المهدي المنجرة، عولمة العولمة من أجل التنوع الحضاري، منشورات الزمن، مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء، ط2، 2011، ص106، بتصرف.
[17] ديوان الشافعي المسمى: الجوهر النفيس في شعر الإمام محمد بن إدريس، إعداد وتعليق وتقديم: محمد إبراهيم سليم، مكتبة ابن سينا للنشر والتوزيع والتصدير، ص 142.
رابط الموضوع: https://www.alukah.net/literature_language/0/121175/#ixzz6Ar9vY9LL
المقال السابق الاشتقاق في اللغة العربية | المقالات المتشابهة | المقال التالي أهمية التراث الأدبي واللغوي ظاهرة التنغيم في اللغة العربية والإنجليزية نموذجا |